وهو
نموذج هجرة المسلمين وعيشهم بأرض الحبشة;إذ لما اشتد البلاء والبطش
والتعذيب من مشركي مكة للقلة المسلمة, قال لهم الرسول صلي الله عليه
وسلم:'لو خرجتم إلي أرض الحبشة فإن بها ملكا عظيما لا يظلم عنده أحد,
وهي أرض صدق,حتي يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه'(سنن البيهقي9/9).
لقد كانت الحبشة كقريش مجتمعا غير مسلم, ولكنه كان مظنة العدل والحماية
لكل من يلجأ إليه من المستضعفين وذوي الدعوات النافعة الصالحة, التي تبني
ولا تهدم, وتحيي النفوس ولا تفنيها, وهذا ما دعا رسول الله صلي الله
عليه وسلم أن يأذن لأصحابه-والمأذون مأمون- بالهجرة إلي الحبشة مخافة
الفتنة وفرارا إلي الله بدينهم, فكانت أول هجرة في الإسلام, وكان جميع
من لحق بأرض الحبشة سوي الصغار ومن ولد بها نيفا وثمانين رجلا وإحدي عشرة
امرأة.
وحين نزلوا بالحبشة استقبلهم النجاشي خير استقبال وأحسن وفادتهم, فعن أم
سلمة رضي الله عنها قالت:لما نزلنا أرض الحبشة, جاورنا بها خير جار
النجاشي, أمنا علي ديننا, وعبدنا الله تعالي لا نؤذي ولا نسمع شيئا
نكرهه'(مسند أحمد202/1). وكانت الحبشة متجرا لقريش فدرسوا طريقها
وعرفوا ملكها النجاشي, ولذلك سعوا متفائلين في طلب من هاجر من
المسلمين, وأرسلوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص, فحاولا
استمالة النجاشي وتأليبه علي تلك الفئة المسلمة توطئة لأخذهم وإعادتهم إلي
مكة, إلا أن النجاشي رفض وقال لبطارقته:'لاها الله إذن لا أسلمهم
إليهما, ولا يكاد قوم جاوروني, ونزلوا بلادي, واختاروني علي من سواي
حتي أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان أي في أمرهم, فإن كانوا كما يقولان
أسلمتهم إليهما ورددتهم إلي قومهم, وإن كانوا علي غير ذلك منعتهم
منهما, وأحسنت جوارهم ما جاوروني'.
وعندما سأل النجاشي المسلمين, بين له سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله
عنه في خطاب بليغ الحال التي وصل إليها أهل مكة من الانحلال الأخلاقي
والديني,وأخبره أن الله تعالي بعث رسولا من بينهم, يتصف بكل خلق حسن
وخصلة حميدة, يدعوهم إلي الفضيلة وينقذهم من الرذيلة, ويأمرهم بترك
عبادة الأوثان إلي عبادة الله وحده, وزاد جعفر:'وحرمنا ما حرم علينا,
وأحللنا ما أحل لنا, فعدا علينا قومنا, فعذبونا,وفتنونا عن ديننا,
ليردونا إلي عبادة الأوثان من عبادة الله تعالي,وأن نستحل ما كنا نستحل
من الخبائث, فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا, وحالوا بيننا وبين
ديننا, خرجنا إلي بلادك, واخترناك علي من سواك; ورغبنا في جوارك,
ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك'. ثم تلا عليه صدر سورة' مريم'
فبكي النجاشي حتي اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتي أخضلوا صحائفهم حين سمعوا
ما تلا عليهم, ثم قال لهم النجاشي:'إن هذا والذي جاء به عيسي ليخرج من
مشكاة واحدة'.
وفي تلاوته لسورة مريم تأكيد للصلة الوثيقة بين المسيحية والإسلام,
وأنهما_ كما قال النجاشي_ من مشكاة واحدة, تحث جميعها علي عبادة الله
كما قال تعالي
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله
إلا أنا فاعبدون)(الأنبياء:25). وتدعو كذلك إلي التحلي بمحاسن الأخلاق
والتواصل والتعايش مع الآخر في سلام, قال سيدنا جعفر:'وأمرنا بصدق
الحديث,وأداء الأمانة, وصلة الرحم,وحسن الجوار,والكف عن المحارم
والدماء, ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف
المحصنات'.
وهذا ما تكرر مرة أخري في قصة أبي سفيان-وكان مشركا وقتها- مع هرقل ملك
الروم, حين سأله عن صفات رسول الله صلي الله عليه وسلم وأحواله وعما
يدعو إليه,فاستدل بذلك علي صدقه ونبوته ورسالته,وقال له:'إن كان ما
تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين, وقد كنت أعلم أنه خارج, لم أكن أظن
أنه منكم, فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه, ولو كنت عنده
لغسلت عن قدمه'(البخاري:15/1).
وفي ذلك إشارة للمسلمين في كل زمان ومكان,بأن يخاطبوا غيرهم بما يقربهم
ويحببهم فيهم, لا كما يفعل المتشددون في هذا العصر ممن يلجأن إلي دول غير
مسلمة ويصرون علي التأكيد بأن أديان تلك الدول باطلة,ويحاولون فرض
رؤيتهم للإسلام في تلك الدول غير آبهين لظروف أهلها وبيئتهم وعقائدهم التي
نشؤوا عليها, مما يشوه صورة الإسلام في العالم,ويعطي مبررا لمتعصبي
الديانات الأخري وكارهي الإسلام,أن يروجوا صورا مغلوطة عن الإسلام
والمسلمين.
إن نموذج الحبشة الرائع الذي ضربه المسلمون الأوائل في التعايش مع الآخر في
بلاده نبراس للمسلمين في كل زمان ومكان ليتمسكوا بالسيرة العطرة لرسول
الله صلي الله عليه وسلم. وصحابته ويطبقوها في واقعهم الذي يعيشونه,وهو
نور يهتدون به في تعاملهم مع الأمم المختلفة التي يعيشون فيها, وهو أيضا
تأصيل وبيان لهم بأنهم علي هدي وبصيرة من مشكاة النبوة, وهذا كاف في
راحة ضمائرهم وسكينة أنفسهم المؤمنة, ودافع لهم كذلك إلي أن ينخرطوا في
مجتمعاتهم الجديدة ويندمجوا مع تلك الأمم,غير مفرطين في ثوابت الدين
وأصوله, تلك الثوابت التي تدعو إلي التعامل مع الآخر والتعايش السلمي
معه,في إطار من المشاركة والعطاء, والعرفان والوفاء لذلك الآخر الذي
استقبلهم في بلاده.