من أزهق روح أكتوبر؟
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] بقلم د. طارق عباس
٩/ ١٠/ ٢٠١٠
لا يتخذ القرارات الحاسمة سوى الشجعان من ذوى الأفهام
والخبرات والمواقف الواضحة، ولا وجود لأمة لا يقودها
رجل شجاع يعرف جيدا متى يتخذ القرار المناسب فى الوقت
المناسب، وهو مطمئن القلب واثق فى مكانته بين الناس وفى
إيمانهم به وحبهم له واحترامهم لعقليته، وعندما اتخذ
الرئيس الراحل محمد أنور السادات قراره بالعبور فى
السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، كان مدركا حجم المخاطرة
المترتبة على مثل هذا القرار،
لكن شجاعته هيأت له رفض مبدأ إيثار السلامة مهما كان
الثمن، وفى الوقت نفسه كان واعيا أنه لن يحارب إسرائيل
وحده ولن يعبر القناة وحده ولن يعيد الكرامة لمصر
والعرب وحده، وإنما هناك خلفه شعب يحبه ويؤمن به
ويصر مثله على تجاوز مرارة الهزيمة إلى حلاوة
الانتصار، والانصهار مع القائد فى بوتقة طموحات واحدة
يذوب فيها الجميع باختلاف الطوائف والأطياف.
كانت الساعة الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر تمثل
إشارة البدء لأشرف معركة خاضها المصريون فى تاريخهم
المعاصر، لا فرق فيها بين مسيحى ومسلم، بين صعيدى
وبحراوى، بين ابن فقير وابن أمير، بين ابن باشا وابن
فلاح، الكل يعرف دوره فى عزف سيمفونية الخلاص فى
تناغم غير مسبوق، الكل يطوى الأرض طيا، ويزلزلها تحت
أقدام العدو بصيحة رجل واحد: الله أكبر، الكل يتنافس على
أن يسطر من آيات البطولة والفداء ما يشفى الغليل ويعيد
الكرامة للإنسان والوطن.
بالفعل وبالاسم وبالحرف وبكل لغات العالم، كانت حرب
أكتوبر نقطة فاصلة بين ما كانت تعيشه مصر وبين ما يجب
أن تكون عليه مصر، بين أسطورة جيش إسرائيل الذى لا
يقهر، وإسرائيل المقهورة والمذلولة والمهزومة على يد
القوات المسلحة المصرية التى حطمت خط بارليف
وتمركزت على امتداد ١٣٠كيلو مترا من الضفة الشرقية
وفى عمق سيناء، وأجبرت إسرائيل على إعادة حساباتها فى
ضوء خريطة جديدة لموازين القوى فى الشرق الأوسط،
وهى الحقيقة التى أقر بها موشيه ديان وزير الدفاع
الإسرائيلى فى تلك الحقبة من خلال مذكراته عن الحرب
عندما قال : ( أصبحنا لا نملك القوة الكافية لإعادة
المصريين إلى الخلف عبر قناة السويس مرة أخرى، وأننا
لسنا أقوى من المصريين وأن حالة التفوق الإسرائيلى قد
زالت وانتهت إلى الأبد، وبالتالى فالنظرية التى تؤكد على
هزيمة العرب فى ساعات إذا ما حاربوا إسرائيل هى نظرية
خاطئة والمعنى الأهم هو انتهاء نظرية الأمن الإسرائيلى
بالنسبة لسيناء وعلينا أن نعيد دراساتنا ونعمل على التمركز
فى أماكن دفاعية أخرى ونحن الآن أمام مهمتين،
الأولى: بناء خطوط دفاعية جديدة والثانية، إعادة
استراتيجيتنا لبناء قوتنا العسكرية على أسس جديدة لأننا ندفع
الآن ثمنا باهظا فى هذه الحرب كل يوم، ونخسر عشرات
الدبابات والطائرات والمدفعية) اعتراف من أكبر القيادات
الصهيونية بأن إسرائيل بسبب هذه الحرب صارت خائفة
قلقة غير قادرة على إعادة المصريين للخلف وهو ما يجعلنا
نستغرب الآن بعد ٣٧ سنة من هذه الحرب، ونتساءل: إذاً،
من الذى أعادنا للخلف؟
من الذى طمأن إسرائيل وزرع فينا كل هذا الخوف منها، بعد
أن كان من المفترض أن تخافنا وتعمل لنا ألف حساب؟ من
الذى أضاع من مصر والعرب الريادة والسيادة وفرق
كلمتهم وجعل همهم التسابق على السباحة فى تيار الهيمنة
الأمريكية وخدمة مخططاتها الإمبريالية؟ من الذى أفقدنا الثقة
فى قدرتنا على النجاح وقتل فى معظمنا كل آيات الانتماء
وأجبرنا على غض الطرف عمن يتحدثون باسمنا رغم أنهم
ليسوا منا ولسنا منهم؟.
أشعر وكأن بين يومى السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣
والسادس من أكتوبر عام ٢٠١٠ دهورا أزهقت روح أكتوبر
التى جمعتنا على كراهية عدو واحد وحببت بعضنا إلى
بعض، أزهقت روح أكتوبر التى بعثت فينا لأول مرة بعد أن
حلت بنا النكسة، وإذا بالمصريين يعدون العدة كى يثأروا
لأنفسهم بعد أن ترسخت فيهم، أن حياتهم ليست فى رغيف
العيش فقط والصراع عليه، ليست فى الرشوة وإهدار المال
العام وتمكين القيم الوافدة من القيم الأصيلة، ليست فى
الخوف غير المبرر من كل من هب ودب، وإنما حياتهم فى
كرامتهم التى يجب أن تسترد وإصرارهم على أن يعيشوها
غير مبالين بالموت بدلا من أن يموتوا فيها وهم على قيد
الحياة.
هذه الروح هى التى طمأنت عبدالناصر وأعانته على تجاوز
الواقع الجديد ودفعته للاستقواء بالمصريين بدلا من أن يبحث
لنفسه عن سكة السلامة فى أحضان الغرب والبكاء على
اللبن المسكوب، لذلك اتخذ قراراته بالثورة على أخطائه
واعتبارها منطلقا لبلوغ أسمى الأهداف الوطنية والقومية،
فأجرى تعديلات فى قيادات الجيش لوضع استراتيجية جديدة
لحرب استنزفت قوة العدو مدة ست سنوات، من خلال نخبة
rمن أمهر وزراء الحربية تسلمت الراية من يوليو ١٩٦٧ إلى ديسمبر عام ١٩٧٤،
وهى على الترتيب: (أمين هويدى، محمد فوزى، محمد
أحمد صادق، أحمد إسماعيل على)، روح أكتوبر هى التى
شغلت الناس عن خلافاتهم واختلافاتهم ووحدت بينهم فى
الهدف والمصير وصرفتهم عن الصغائر من الأخطاء
والجرائم حتى إنه أثناء حرب أكتوبر وبعدها بستة أشهر لم
تسجل جريمة واحدة، روح أكتوبر هى التى كان من
المفترض أن تستثمر أحسن استثمار فى دفع عجلة التنمية
وقيادة الدول العربية للمزيد من التوحد بعد أن تأكد الجميع
أن فى وحدة العرب الخطر الأعظم فى وجه أمريكا
وإسرائيل ومصالحهما فى الشرق الأوسط،
روح أكتوبر هى حائط الصد الذى كان منوطاً به أن يقزم
إسرائيل ويحد من أطماعها ويواجه الاحتلال الأمريكى
للعراق ويرفض تقسيم فلسطين بين فتح وحماس ولا يسمح
بإعدام صدام حسين الرئيس العراقى العربى فى عيد الأضحى رغم أنف الشعوب العربية وبإذن من واشنطن،
ولا يقبل ببناء المستوطنات وإجراء أى نوع من المفاوضات
طالما أن هناك تعنتاً إسرائيلياً، ولا يرضى بتهويد القدس
والهدم التدريجى للمسجد الأقصى ويحرك دماء من فى
عروقهم دماء عندما يقوم المتطرفون اليهود بحرق المصحف
الشريف جهارا نهارا، روح أكتوبر هى التى لا تصح أن
توأد فينا أو تسلب منا فشعب بلا روح هو جسد مصيره
لحشرات الأرض.