فترة واحدة تكفى

قطعنا خلالها‏13887‏ كيلو مترا حسب التقرير الذي اعلنته ادارة الباخرة منها‏7234‏ كيلو مترا المسافة من لوس انجلوس الي فالباريسو في شيلي‏,‏ و‏6653‏كيلو مترا من فالباريسو الي بيونس ايرس‏.‏
عدنا إذن ولاول مرة بعد‏33‏ يوما الي النوم علي سرير فوق الارض التي نعرفها‏,‏ وليس في كابينة في باخرة تتطوح بنا عادة في بطء وحنان‏,‏ واحيانا بصورة عنيفة عندما يغضب علينا المحيط ويعلن عن ثورته‏.‏
تركنا الباخرة تواصل رحلتها الي البرازيل ومنها الي جنوب افريقيا‏,‏ اما مجموعتنا فقد حطت رحالها في الارجنتين‏..‏ في بوينس ايرس‏.‏
والارجنتين ـ‏32‏ مليون نسمة في مساحة اكثر من‏2.7‏ مليون كم مربع ـ ثاني اكبر دولة بعد البرازيل في امريكا الجنوبية التي تضم‏13‏ دولة‏.‏ ومن اول جولة في بيونس ايرس اكتشفنا انها مدينة ضخمة ومبهرة بحيويتها وسهراتها ومطاعمها ومراقصها وفنادقها ومحالها التجارية وشوارعها الواسعة وعلي رأسها شارع‏9‏ يوليو الذي يرمز الي التاريخ الذي نالت فيه الارجنتين استقلالها من اسبانيا عام‏1816,‏ وهو اوسع شارع فعلا لا مجازا في العالم اذ يتسع في كل جانب من جانبيه لتسع حارات لمرور السيارات الي جانب رصيفين عريضين للمشاة وشريط واسع من الخضرة يتوسط الشارع ويفصل بين الاتجاهين‏.‏ وقد بدأ التفكير في اقامة هذا الشارع عام‏1888‏ الا انه لم ينفذ الا بعد‏48‏ سنة عام‏1936‏ لكن الاهم من ذلك في رأيي الرسالة التي تبعث بها الارجنتين الي كل الدول التي تعاني بعدم اليأس من النجاة والصعود من جديد‏,‏ فحتي بداية الالفية الثالثة كانت الارجنتين دولة مثقلة بالديون الضخمة التي جعلت دول العالم تتحاشي التعامل معها لانها تقريبا اعلنت افلاسها وعدم قدرتها علي السداد في الوقت الذي هرب السياح منها لشدة غلائها‏.‏
وكان اسوأ ما تعرضت له الارجنتين الانقلابات العسكرية العديدة التي تسابقت في القضاء علي ـ البيرونية ـ نسبة الي حكم الجنرال ـ جوان بيرون ـ الذي حقق شعبية كبيرة مع زوجته الشهيرة ـ ايفيتا ـ وقد شهد حكم هذه الانقلابات اسوأ صور انتهاكات الانسانية وعمليات تصفية المعارضين السياسيين وما اطلق عليه ـ سنوات الاختفاء ـ التي اختفي فيها نحو‏30‏ الف مواطن من الناشطين سياسيا من طلبة الجامعات والشباب والمعارضين كانت تصحو عائلاتهم علي اختفائهم دون الاستدلال علي أي أثرا منهم حيا او ميتا‏.‏ ورغم محاولات كارلوس منعم الذي حكم الارجنتين عشر سنوات ـ من‏1989‏ الي‏1999‏ ـ الا ان مشاكل الارجنتين ازدادت سوءا بسبب انتشار الفساد‏.‏ وتم تعديل الدستور وتحديد فترة الرئاسة بمدة واحدة بدلا من مدتين ولفترة اربع سنوات بدلا من خمس‏.‏ وفي وسط الاختناقات الحادة التي عاشتها الارجنتين جاءت الانفراجة مع انتخابات‏2003‏ وتولي الرئيس ـ نستور كريشنر ـ الذي بدأ بإلغاء الحصانة التي اسبغها جنرالات الحكم العسكري علي قراراتهم واعفاء مساعديهم من اي مسئولية وطارد ـ كريشنر ـ مجرمي الانتهاكات التي جرت منذ السبعينيات مما لاقي قبولا شعبيا ساعد علي تحقيق الاستقرار السياسي‏..‏ وقام كريشنر بعد ذلك بإجراء خطوة عندما قرر فك الرباط الطويل بين ـ البيزو ـ الارجنتيني والدولار الامريكي‏,‏ والذي كان البيزو بموجبه يعادل الدولار‏,‏ وفي يوم وليلة انخفضت قيمة البيزو مقابل الدولار الي اكثر من الثلث‏,‏واستيقظ اصحاب الودائع علي تدهور ودائعهم في البنوك‏,‏ وانخفضت اسعار الفنادق والاقامة في الارجنتين في مقابل الدولار ولكن مردود ذلك جاء سريعا فتدفق السياح الذين انقطعت زياراتهم للارجنتين‏,‏ وانتعشت الحركة السياحية‏,‏ وزادت حركة التصدير للحبوب واللحوم التي تعد الارجنتين من كبار المنتجين لهما‏,‏ واستردت الارجنتين عافيتها‏.‏ ولان الدستور يمنع تولي اي رئيس اكثر من فترة واحدة مدتها اربع سنوات فقط‏,‏ فقد كافأ شعب الارجنتين رئيسه ـ كريشنر ـ الذي استعاد مكانة بلاده اقتصاديا وداخليا وعالميا‏,‏ بانتخاب زوجته ـ ايزابيل ـ رئيسة للارجنتين‏.‏
وكان التخطيط بعد انتهاء فترة رئاسة ايزابيل في عام‏2011‏ ان يعود ـ كريشنر ـ لترشيح نفسه في انتخابات من المؤكد نجاحه فيها‏,‏ ولكن المفاجأة كانت وفاة‏-‏ كريشنر ـ في اكتوبر الماضي عن سن‏60‏ سنة نتيجة ازمة قلبية مما اربك ـ البيرونيين ـ ووضع الارجنتين في مهب احتمالات مجهولة‏.‏