تحالف المرضى
الكاتب
بلال فضل
Sun, 14/11/2010 - 08:05
إن أَنس فلا أنسى أبدا ذلك الرجل مهيب الطلعة الذى قابلنى فى معمل تحاليل كبير وأنا بصحبة والدتى، كان قد خرج لتوه دائخاً من عملية أخذ عينة، وعندما لمحنى وأنا أجلس فى غرفة الانتظار المزدحمة بأناس من مختلف الفئات والطبقات والأعمار وَحّد بينهم المرض والأمل فى الشافى المعافى، اتجه نحوى وهو يغالب الدوار الناتج عن البنج، وقال لى دون مقدمات «بص بقى أنا عايز أقول لك حاجة لازم تقولها لكل الناس اللى فى البلد دى.. ممكن تيجى معايا لحظة بره»، اعتذرت له لأننى بصحبة والدتى ولا أريد تركها وحيدة، فنظر إليها وقال لها «ألف سلامة يا فندم.. بص بقى عشان ما أعطلكش لازم تقول للناس كلها إن رجال الأعمال الـ... وقال شتيمة بذيئة ثم نظر إلى والدتى معتذرا أنا آسف يا فندم.. بس مالقيتش كلمة تانية تنفع.. خربوا البلد بالمبيدات والكيماويات والأكل البايظ.. والحكومة الـ... قال شتيمة أكثر بذاءة، ثم لم يكلف نفسه عناء الاعتذار، ونحن لم نزعل بصراحة لأنه حتى أمى عفة اللسان تدرك أن الحكومة تستحق، سايبالهم الحبل على الغارب وعشان كده عمالين يأكّلوا الناس فى سموم جابت لنا الأمراض المهببة دى اللى عمرنا ما كنا بنعانى منها بالشكل ده»، قطع حديثه المتدفق الغاضب صوت رجل فقير يرتدى جلابية رثة وينام بالعرض على ثلاثة كراسى ويتألم بشدة، كنت قد علمت أن صاحب المركز سمح له مشكورا بالانتظار لكى يجرى له التحاليل مجانا، لكن بعد أن يأخذ الذين يدفعون الشىء الفلانى دورهم.
لم تكن تنقصنا تلك الآهات بالطبع لكى نزداد كآبة وغضبا، عاد الرجل المهيب ليقول لى «تقدر تقول لى ده هيلاقى إزاى مين هيعالجه هو والملايين اللى زيه.. إحنا فالحين نتبرع بس لمستشفيات الأورام ومش قادرين نحط إيدينا على أساس المشكلة اللى هتخلينا مهما تبرعنا ودفعنا فى فلوس مش قادرين نوقف اللى بيحصل لنا.. عشان إحنا مش قادرين نقف وقفة حياة وموت قصاد كل اللى بيبيعوا أكل غلط فى أكياس وقزايز بتتباع لولادنا تحت سمع وبصر الحكومة.. مش قادرين نعرف هل اللى إحنا بناكله ده صح ولاَّ غلط.. مش قادرين نواجه إن اللى إحنا فيه ده سببه إننا بعدنا عن الطبيعة اللى ربنا خلق بيها الأكل والشرب.. ولما لعبنا فيها عشان نكسب أكتر رحنا فى داهية».
نظرت إلى أمى التى اكتفت بهز رأسها بحماس، وأدركت أنها لو لم تكن متعبة لما تركت هذا الرجل يتكلم لوحده، ولقاطعته بمداخلة طويلة حول السموم التى نأكلها فى غذائنا ونتنفسها فى هوائنا، ظن الرجل نظرتى مللا فقال لى: «أنا عارف إنى طولت عليك.. بس أنا موجوع أوي.. واللى واجعنى مش المرض لأنه ابتلاء من ربنا.. اللى واجعنى إنى حاسس إنه كان ممكن مانعياش كده وبالشكل ده لو كنا فى بلد بيحكمها ناس عندهم ضمير ومابيبعوش كل حاجة بالفلوس.. عايزك تعرف إنى مش هاسكت.. مش عارف لسه هاعمل إيه.. بس مش هاسكت»، ثم تركنا ومضى وهو يتسند على مرافقه.
قضيت أياماً وليالى وأنا أفكر فى جملته الأخيرة الموجعة «مش عارف لسه هاعمل إيه.. بس مش هاسكت»، وأسأل نفسى عن الذى ينبغى أن نفعله جميعا لكى لا نظل نمرض من سكات، قلت لنفسى فى البداية ما ستقوله لنفسك الآن: «وماذا فى أيدينا أن نفعله كمواطنين لا يملكون سوى ألسنتهم وأحيانا أقلامهم؟»، وبعد تفكير قلت لنفسى ما أتمنى أن تقوله لنفسك من الآن وصاعدا: لماذا لا تكون البداية فى القضاء العادل الذى نثق فيه.
ألسنا نلجأ إليه لكى يوقف فساد الحكومة عندما تبيع أراضى البلاد برخص التراب؟.. لماذا لا نلجأ إليه لكى يوقف فساد الحكومة التى تسمح بهذا التخريب المنظم لصحة المصريين؟.. لماذا لا يتجمع ولو حتى المئات من الذين أصيبوا بهذا المرض اللعين وغيره من الأمراض الناتجة عن تلوث الغذاء والماء والهواء ويؤسسون تجمعا شعبيا يقوم بتوكيل عدد من المحامين البارعين ليلاحقوا هذه الحكومة قضائيا لكى تتحمل مسؤوليتها تجاه تلوث الغذاء والماء والهواء؟. نريد أن نرى وزير الزراعة أمام المحكمة وهو يثبت للقضاء أنه فعل ما عليه وزيادة فى ملف إفساد الزراعة، وإلا فإن عليه أن يدفع ثمن إهماله وتقصيره.
نريد أن نرى وزراء التجارة والتضامن الاجتماعى والداخلية والصحة أمام المحكمة وهم يثبتون أنهم يقومون بكل ما ينبغى فعله فى ملف الرقابة على الأغذية المحلية والمستوردة. نريد أن نرى كل مسئول فى هذه البلاد وهو يقف أمام القضاء ليثبت أنه أدى ما عليه فى مجال عمله، ببساطة إذا كنا خائفين وعاجزين عن مساندة دعوات تغيير رأس هذا النظام الذى يتسبب فى كل هذه المصائب التى تحدث لنا، فهل ينبغى أن نمرض فى صمت حتى نموت؟، ولماذا لا نلجأ إلى الضغط على هذه الحكومة بكل ما فى أيدينا من وسائل شرعية وقانونية؟.
إنها دعوة لتشكيل تحالف للمرضى فى وجه من يسببون لهم المرض، فهل تلاقى تلك الدعوة آذانا مصغية؟، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ولاتأخذ كل الذين فى بالى يارب إلا بعد أن نأخذهم إلى المحكمة، لأن الموت سيكون راحة لهم من شر الوقوع فى شر أعمالهم.