مقدرش أنساك
نجيب محفوظ في مئويته
بقلم: سناء البيسى
في أي من أعماله لا نجد صوتا آخر غير صوته وصوت ضميره والصوت الصادر من نبضات قلبه.. أبدا لن نجد في أعماله صوت حزب يفرض آراءه أو مؤسسة تعبر عن وجهة نظرها.
ولا صوت زعيم سياسي يفرض علي الكاتب أن يكون بوقا يعبر عن الزعيم ويختفي وراء صورته.. كافح وجاهد منذ البداية إلي النهاية لكي يحقق لنفسه الاستقلال التام عن أية قوي خارجية تفرض عليه رأيا أو موقفا أو اتجاها معينا قد لا يكون راغبا فيه, واستقلال الكاتب والفنان ليس من الأمور السهلة في عصرنا الحاضر, خاصة إذا ما كان الكاتب في الأصل من أسرة متوسطة لا تملك ثروة يمكن للكاتب أن يرثها ويعتمد عليها.... ذهبت يوما أسأله عن سر توحده في استقلاله بينما كتيبة زملاء القلم كل له شعبته, فكاتبان كبيران مثل العقاد وطه حسين ظلا مرتبطين بالأحزاب السياسية أوثق الارتباط في معظم مراحل حياتهما المختلفة, فالعقاد كان وفديا حتي عام1935 عندما انفصل عن الوفد وانضم إلي الحزب السعدي, وطه حسين الذي بدأ مع الأحرار الدستوريين حتي عام1930 ليتحول بعدها إلي الوفد ويظل مرتبطا به حتي قيام ثورة1952 حين تم إلغاء الأحزاب, ومن هنا كانا يجدان دوما الأمان والحماية والمساندة في ظل تلك الأحزاب, وكان كل من محمود تيمور وتوفيق الحكيم يملكان بالميراث ما يسمح لهما بالاعتماد علي دخل خارجي لا علاقة له بانتاجهما الفني والأدبي الذي لم يكن يؤكل وقتها بقلاوة ولا بتاو ولا شمسي.. الكل كان له ظهر أو إرث أو نسب لسلطة تلئم الجرح في منبته, وتدفع الضر عن ربيبها من علي بعد قبل شكواه إليها.. إلا هو.. إلا نجيب محفوظ الذي أجابني بهالة المستقل الذي نظر إلي الأمر كله نظرة صافية صوفية تكشف عن أنه إذا ما كان الإنتاج الأدبي أو الفني فيه خير فسوف تأتي النتائج الطيبة وحدها مهما طال الزمن.. أتعرفين ما الذي جعلني أستمر في استقلالي ولا أيأس!؟.. لقد اعتبرت الفن حياة وليس مهنة, فعند اعتباره مهنة لا نستطيع معها إلا أن ينشغل البال بانتظار الثمرة, أما أنا فقد حصرت اهتمامي في الإنتاج نفسه, وليس بما وراء الإنتاج.. كنت أكتب أكتب أكتب وأكتب وأنا معتقد أنني سأظل علي هذه الحال دائما.. إنه عناد الثيران!! وهذا خير وصف للحالة النفسية التي كنت أعمل بتأثيرها.. أنا مش بتاع سلطة وهذه حقيقة ليس فيها أي نوع من المبالغة, فلم تكن السلطة في يوم من الأيام هدفي ومأربي, فالأديب الذي يقدس مهنته يفضل أن يبتعد عن السلطة بهمومها ومتاعبها ومشاغلها والتزاماتها وبروتوكولاتها.. والسلطة الحقيقية التي طالما حلمت بها هي سلطة الأدب والفن وليست السلطة الإدارية وتعظيم سلام في الرايحة والجاية, فالأدب في حد ذاته يمكن أن يكون سلطة مؤثرة إذا أخلص له الأديب وأحسن استخدامه, والأديب يمكن أن يكون صاحب سطوة ونفوذ وتأثير علي الرأي العام من خلال كتاباته فقط.. ولقد كنت أكتب الرواية ثم أضع يدي علي قلبي خشية الاعتقال, ثم ماذا يريدون مني بعد كل الانتقادات الصريحة التي وجهتها إلي السلطة وكشفت فيها عن أخطاء خطيرة, وهي أمور ما كنت لألتفت إليها لو كان في نيتي نفاق الحكام.
ولأنه الكاتب الحر المؤمن بالحوار, الذي لا يفرض رأيه علي غيره, أو يعمم مبادئه علي الآخرين, يعود ليضيف حول استقلاله عن السلطة قوله: أحب أن أؤكد نقطة مهمة وهي أن رأيي هذا هو توجه خاص بي لا أفرضه علي أحد ولا أعيب علي أي مفكر أو أديب يعمل بالسياسة أو يسعي إلي السلطة, فربما كانت وجهة نظره أنه عن طريق السلطة يخدم الأدب والحياة الثقافية أكثر من تأليف كتاب أو رواية!!!.. ودائما ما كان محفوظ يختتم نظريته في حرية الآخر بضحكته المجلجلة الصاخبة التي تفجر عدواها في حلقة المريدين!!..
المستقل النجيب في مستهل ذكراك المئوية كيف أنسي تاريخا في عالم القلم معك, كنت فيه قارئة نهمة لأدبك.. ساعية أبدا لسطورك.. متجهة نحوك عبر صديق كريم مشترك هو الكاتب الراحل الساخر محمد عفيفي أحد مؤسسي الحرافيش الذي شاركني حجرة مكتب واحدة لمدة عشر سنوات في أخبار اليوم لتغدو أيامك معه هي ثرثرة الأيام معي, وكل سهرة تقضيها متصدرا شلة الحرافيش ــ محمد عفيفي وعادل كامل المحامي وأحمد مظهر, وثروت أباظة, وايهاب الأزهري, والمخرج توفيق صالح, والدكتور مصطفي محمود, وصلاح جاهين, وأحمد بهاء الدين ــ أستقطرها منه في الصباح التالي بإسهاب وصفا وأدبا وفكرا ومرحا وألقا, وعندما كنت ألح علي عفيفي ليصحبني مرة لأعيش أجواءك في الحرافيش كل خميس علي الطبيعة, كان رفضه القاطع يأتيني مبررا بأنها سهرات رجالي بحتة مكانها بيت أحد أفراد الشلة, حيث تحضر ربة البيت متطلبات السهرة وتتبخر بعيدا, فاكتفيت بمعرفتك من خلال عفيفي عن قريب وبعيد معرفة سافرت فيها إليك علي أجنحة الخيال وأنت بين أعز الأصدقاء, حتي ظننت من بعد وقوفي المزمن علي حافة دائرتك أنني بمضي المدة لابد من حصولي علي تأشيرة دخول الدائرة المميزة.. إلي أن التقيتك علي أرض الحقيقة مع تباشير مولود جديد في الصحافة وقتها.. مجلة نصف الدنيا.. فما شعرت بغربة اللقاء بل كأننا نكمل معا حديث الأمس في سهرة الحرافيش.. وعدتني ووفيت بوعدك وهو منحي كل ما يكتبه قلمك للنشر في مجلتنا وحدها, ومنذ صدورها في18 فبراير1990 حتي رحيلي عنها في عام2006 كنت موفيا للعهد لا يعنيك تواضع مكافأتك الشهرية الـ400 جنيه قبل خصم الضريبة التي لا تسمح بسواها ميزانيتنا الفقيرة, بينما تغازلك ألوف دنانير العرب, فتهديني سماحة وتكسبني ثقة, وتخفف من وطأة خجلي منك بقولك: ملاليمكم تساوي عندي ملايين بلاد النفط كلها.. وتأتي أول قصة تنشرها علي صفحاتنا بعنوان المهد.. وانهال سيل سلاسل الذهب في قصص طويلة وقصيرة حتي بدأت كتابة أحلامك التي ظلت تراودك طويلا برؤية أن الأدب كله والفلسفة أيضا من الأحلام.. وما جمهورية أفلاطون وكل المدن الفاضلة التي بناها الفلاسفة إلا أحلام في أحلام.. ومنذ أخبرك طبيبك أن ضمورا قد أصاب شبكية العين, وهي المسألة التي ليس لها من علاج, وجدت في كتابة الرواية عملية مضنية, ومن هنا تدخل اعتلال الصحة ــ كما تقول ــ كثيرا وبقوة في تغيير أشياء كثيرة في حياتك كالطعام والشراب والعادات والنوم.. وأيضا كان له التأثير علي الفن, فانبثقت عوالم الأحلام لتكتبها قصيرة مركزة موجزة.. الخلاصة في دفقة عبقرية.. كلمات قصيرة لا تتعدي سطورها البرقية, لكنها تلخيص الإبريز, وإسقاطات الماضي, وسكة السفر للغد, وكشف ما تحت الجلد, واللب, والجوهر, والقرب والبعد, والعمق وقمة إفرست.. الجهات الأربع في قلب بوصلة الحكي.. حصاد العمر كلمات.. نجيب الذي يري ما لا نري, ويدخل رائدا في أدب عصر الأزرار.. العمر في جملة, والعصر في سطر, والسنة في كلمة, والمشوار بأدق تفاصيله ومنحنياته وآلامه وأوجاعه وأوهامه وأحبابه وأعدائه تسرده يا محفوظ مصر في بلاغة نقطة فوق سطر تزاوج فيها المشاعر وتعقد قران حلم الواقع بدروب الخيال, وتطرح شقاوة الصبا في مربع وقار الكبار.. و..تصل أحلامك معي إلي مائتي حلم وأكثر..
وفجأة يتوقف الغيث وتصمت أحلامك في عام1994 عندما تحاك من حولك مؤامرة آثمة لاغتيالك علي يد غرير لم يقرأ لك حرفا.. تطلب له العفو من بعد اعتدائه عليك لكن السلطات لم تقبل العفو, فالجاني لم يعتد علي نجيبنا وحده, لكنه كان موجها توجيها أعمي للقضاء علي رموز الفكر والتطور في مصر.. ومكثنا بدونك زمنا وكأن الحائط الرابع من الكيان قد سقط عنا, إلي أن ناداني صوتك في التليفون فهتفت عاليا لتسمعني لأجدها دعوة للحضور إليك, فاستشعرت جديدا في الأفق, وتوقعت خيرا فانتشيت وارتديت الثوب القشيب, وأسرعت وطرقت بابك ففتحت لي بنفسك في موعدك تماما.. فأنت رجل الساعة والنظام ودقة الموعد.. السابعة مساء.. وجلست بين يديك لتمنحني الأغاني.. كلمات راقصة بخط يدك المهتز من آثار الطعنة الآثمة, تعزف فيها تاريخ حياتك في سرد موسيقي يروي مراحل عمرك منذ إشراقة الطفولة حتي خريف العمر, مرورا بالمراهقة, وأوج المشاعر العاطفية, والغرق في بحور الحب والوجد, وطيش الشباب, والبحث عن الطريق, ومحطات الحياة الحرجة التي تحمل التساؤلات الكبيرة حول الوجود والمصير.. وعندما يأتي المساء مع المشيب.. أغنيات الذكري لم تزل محفورة علي جدران ذاكرتك تعشش في المخيلة العبقرية, وتحيا بين الجوانح, فإن لم تكن تسعفك قوة السمع لصفاء إنصات جديد, فموسيقاك الداخلية تزيد وتفيض.. وكيف لا وقد نشأت طفولة بجوار الفونوغراف عندما تغرز الإبرة في الاسطوانة فتمتلئ الأجواء بصوت وألحان سيد درويش الذي عشقته والدتك إلي جانب عشقها للآثار فكانت الزائرة الدائمة للمتحف المصري تقف طويلا وأنت في صحبتها صغيرا أمام آلة الهارب الموسيقية الفرعونية.. وكنت من رواد مقهي خان جعفر ما بين ميدان بيت القاضي والحسين لتستمع لشاعر الربابة يحكي قصة أبوزيد الهلالي فتمكث مترددا إلي أي جبهة تنضم.. إلي من يؤيد أبوزيد أو من في صف دياب, وكان شاعر الربابة غالبا ما يجد نفسه واقعا في موقف حرج لا يعرف أي الفريقين يرضي ليزيد من وقع غنائه بعدما يأتي باسمه.
قرأت معك الأغاني التي ذهبت تشرح لي وقعها وتاريخها وعلاقتك بها, فأدركت كم تغلغل تراثها في أعمالك لتتواثب فيما بعد كلماتها وألحانها بين سطورك في ثلاثيتك ورواياتك وقصصك وأحلامك, رابطا في كل مرحلة تطور الغناء بتطور المجتمع المصري, مهتما علي سبيل المثال بأم كلثوم كظاهرة غنائية تاريخية ملأت الدنيا وشغلت الناس.. وأبدا لم تقحم فن الغناء علي عملك إقحاما, بل عقدت بينهما بأواصر حية لا إلحاح فيها ولا اختلال.. وها أنت اليوم تكتب أغانيك وحدها خالصة الطرح, روائية المتن, حاضنة التراث.. يومها لم تكن رؤيتك واضحة لإطار النشر الذي ستطل منه تلك الأغاني لتسألني عنه بتوجس أكثر من مرة, بمشاعر والد يترك الابن في ساحة المجهول.. طمأنتك وذهبت بكنزي أطلع عليه الأستاذ ابراهيم نافع أزف إليه بشري حصولي علي أول ما كتب نجيب بعد إصابته.. الأغاني.. ملحمة شعبية تتردد في أصدائها نثرات ودندنات تغني بها المصري في طقطوقة ودور ومونولوج علقت بذاكرة النجيب علي مدي العمر المديد لتواكب مسيرة حياته.. أهداني العملاق أغاني سيرته الذاتية التي تضع حجر الأساس لقصائد الشعر الحر فأهديتها بدوري لأهل عملي, واحتفظت بالأصل تراثا لأحفادي.
1- مرحلة الطفولة
عصفوري يمه عصفوري.. لألعب وأوريله أموري
...
التوت توت شرباته.. حلو التوت يا حلاوته
...
البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل
...
قمر له ليالي.. يطلع لم يبالي
...
يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح
يا عم حمزة احنا التلامذة
مايهمناش في القلعة نبات ولا المحافظة
...
مصر يحييك لأهلك.. مابقاش منك إلا أيام سعدك
2- المراهقة
اوعي تكلمني بابا جاي ورايا
...
أبوها راضي وأنا راضي.. ومالك انت بقي ومالنا يا قاضي
...
ياما نشوف حاجات تجنن.. البيه والهانم عند المزين
...
تعالي يا شاطر نروح القناطر
...
حزر فزر.. أنا حاقولك إيه
...
كله إلا كده.. لأ بس ارجع
...
شوف الزهور واتعلم
الهوي والشباب
من فوق شواشي الجبل باسمع نغم بالليل
عشق البنات البكاري هد مني الحيل
3- الحب
الحب كده
...
اسمر ملك روحي
...
لا ملامة عليك يا عيوني في حبه
...
وحقك أنت المني والطلب
...
مالي فتنت بلحظك الفتاك..
وسلوت كل مليحة إلاك
...
اللي حبك يا هناه في نعيمه
...
امتي الهوي ييجي سوا
...
عشق الروح مالوش آخر
...
حبيبي غاب وبقي له زمان مابعتشي جواب
...
أفديه إن حفظ الهوي أو ضيعا
...
البعد علمني السهر
...
أنا والعذاب وهواك.. عايشين لبعضينا
...
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فما انقضي ما بيننا سكن الدهر
4- العربدة
لا تشغل البال بماضي الزمان.. ولا بآتي العمر قبل الأوان
...
وارخي الستارة اللي فريحنا.. أحسن جيرانك تجرحنا
...
علي دول يمه علي دول.. كحيلة وأسمر ياما تلوم ياخي
...
يا منعنشانا يا بتاعة اللوز.. بدي ألاعبك فرد وجوز
...
ماشاالله علي التحفجية.. أصل اللطافة والمفهومية
...
ليلة ماجه في المنتزه.. يادوب قعدنا والكاس في ايدنا
وهف طلع النهار
...
وعومي علي المية.. يا بت يا شلبية
...
سلامتها أم حسن
5- الطريق
عطشان يا صبايا دلوني ع السبيل
...
يا وابور قوللي رايح علي فين
...
شد الحزام علي وسطك غيره ما يفيدك
...
أنا المصري كريم العنصرين المسلم والمسيحي
...
ياللي بدعت الفنون وعرفت أسرارها
...
أتاني زماني بما أرتضي فياالله يا دهر لا تنقضي
آمنت لك يا دهر ورجعت خنتني
...
نصيبك في الحياة لازم يصيبك
....واللي انكتب علي الجبين لازم تشوفه العين
6- نحو السماء
سلوا قلبي غداة سلا وتابا
...
يا نسيم الصبا احمل سلامي
...
رأيت الهلال ووجه الحبيب
...
أهلا ببدر التمام روح الجمال
...
بربك يا من جهلت الغراما
...
أدر ذكري من أهوي ولو بملامي
...
يا آل مصر هنيئا فالحسن لكم
...
مولاي كتبت رحمة الناس عليك
7- الشيخوخة
عندما يأتي المساء
...
من أد إيه كنا هنا
...
يا عشرة الماضي الجميل ياريت تعودي
...
وقالت لقد أزري بك الدهر بعدنا.. فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر
...
ودع هواك وانساه وإنساني.. عمر اللي راح ما حيرجع تاني
...
مقدرش أنساك
...
عشنا وشفنا كتير.. واللي يعيش يشوف العجب
...
حملت باقة الدندنات المحفورة علي جدران ذكري صاحب نوبل لأودعها صفحاتنا كما كتبتها يده الرافضة ما أصاب عروقها من وهن, وكنت حريصة علي أن يحف التكريم الواجب الأغاني لنجيب, مثلما كرمت في زمانها الأغاني للأصفهاني.
في رصدي لموسيقي حياتك عرفت أنك كنت عازفا لآلة القانون في شرخ شبابك, الآلة التي كانت مدخلك لعالم الموسيقي التي بلغت فيها من العزف خمس بشارف, وكان أستاذك حفيدا للعقاد الكبير في فرقة أم كلثوم, وعرفت من كلامك معي أنك كنت تلميذا بمعهد الموسيقي العربية عام1933 أثناء دراستك للفلسفة في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول, وقلت لي إنك كنت زبونا مستديما لحفلات أم كلثوم طوال دراستك الثانوي وفي الجامعة, تنتقل لسماع ثومة من مسرح الماجستيك في العشرينيات إلي الأزبكية عندما كانت تغني طقاطيقها وأدوارها ومونولوجاتها, وإن الست كانت دائما ما تختم بطقطوقة في غرامك ياما شفت عجايب وكان الدور يتمايل علي كمنجة حنجرتها وهي تغني أنا علي كيفك والفل والياسمين والورد ومالي فتنت بلحظك الفتاك.. وآل إيه حلف مايكلمنيش وإن كنت أسامح وأنسي الأسية.. وظلت ألحان الشيخ سيد في خاطرك تدندن معها ياللي قوامك يعجبني وفي شرع مين وأنا عشقت وأنا المصري ولمنيرة المهدية لازم أهشه دا العصفور وويلاه ما حيلتي.. ويكثر الغناء في روايتك أولاد حارتنا لأنها أشبه بملحمة شعبية يتجادل فيها الناس بالعصي الغليظة والأيدي والألسنة والأغاني, وفي كل موقف فيها منشد يقول: الأوله آه.. والثانية آه.. والثالثة آه وذلك علي غرار المأثور من أناشيد الربابة, والمواويل في تلك الملحمة الشعبية كثيرة منها أصل اللي شبكني مع المحبوب عيني ديه وحتي التواشيح القديمة لا تخلو منها أولاد حارتنا فنسمع صوتا هامسا في السحر:
قدك المياس يا عمري.. املالي الكاس من بدري
تتناثر الأغاني بين سطورك.. أناشيد وطنية, وبكائيات الريف مثل يا عزيز عيني السلطة خدت ولدي.. وفي بين القصرين غني كمال بلحن سيد درويش زوروني, ودندن سيد عبدالجواد الجبار بطل الثلاثية ياما بكرة نسمع وبعده نشوف وصفق لزبيدة العالمة تغني الدور علي روحي أنا الجاني... ورغم محبتك لسماع الموسيقي الغربية الكلاسيكية وخاصة ألحان بيتهوفن, وقولك إنك تحب الألحان لدرجة أن شغفك بالموسيقي يكاد يفوق شغفك بالأدب, فأنت غير المتعصب للون واحد من الغناء.. تحب الجديد والقديم معا.. الشرقي والغربي والبلدي والريفي والبدوي, وتري في كل لون مزاياه وأسلوبه ونكهته, وعن طريق صديقك الموسيقار عبدالحليم نويرة تعرفت علي الموسيقار عزيز عثمان وتذوقت ألحانه ورددت من خلفه بطلوا ده واسمعوا ده.. بكره ياما نشوف وياما.. الغراب يا وقعة سودة جوزوه أحلي يمامة.. بل وأدمنت صوت صالح عبدالحي في أوائل الثلاثينيات, وكانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة فكانت لك ولرفيق صباك الدكتور أدهم رجب جلستكما المفضلة في كازينو بالسكاكيني يمتاز بجهاز راديو من طراز معتبر يذيع بوضوح وصلات الشيخ صالح عبدالحي فتطلب الشيشة لتشد الأنفاس في اندماج حتي تنتهي الوصلات الثلاث الموزعة علي فترات البرامج, فإذا ما انتهي شدو عبدالحي قمتما متثاقلين.. أنت إلي بيتكم في العباسية, وأدهم لداره في الجيزة.. و.. من صالح عبدالحي لعبدالوهاب لأم كلثوم تنصت لها تغني كل شيء بقضاء لتسمي إحدي كريمتيك أم كلثوم والأخري فاطمة.. ورغم عشقك لأغنية عبدالوهاب ياوابور قوللي رايح علي فين؟! فأنت لم تسافر خارج مصر سوي مرتين, الأولي إلي يوغوسلافيا, والثانية إلي اليمن, وكنت في الرحلتين مرغما, حيث كان السفر في مهمات رسمية, ويقينا أنك لم تشأ ركوب وابور السماء ولا وابور البحر من بعد تجاوزك مرحلة الشباب, ولو أن فرصة السفر كانت متاحة لك في الشباب الأول لما ترددت في الاستفادة منها.. فأنت القائل: ضاعت علي بعثتان.. بعثة في الفلسفة, وبعثة في اللغة الفرنسية, والسبب هو أن السراي كانت تضطهد الأقباط لأنها كانت تري أنهم عمد الوفد القديم الذي يعارض الملك دائما, وقد اشتبهوا في اسمي ظنا منهم أنني قبطي, وكنت ثاني دفعتي وكان الأول قبطيا فقالوا يكفي قبطي واحد.. وأخذوا الأول والثالث وتخطوني.. ولست حزينا علي بعثة الفلسفة ولكني كنت أتمني لو ذهبت إلي فرنسا في بعثة اللغة الفرنسية. فحتما كنت سأتجه بكليتي إلي ما اتجه إليه توفيق الحكيم في( زهرة العمر) و(عصفور من الشرق).. ولكن الأقدار شاءت شيئا آخر.
الفرص التي أتيحت للسفر جاءتك متأخرة بعدما حددت لأدبك وحياتك خطة رفضت الخروج عليها أو إعادة النظر فيها, وفضلت ركوب الوابور للإسكندرية فقط في الأول من سبتمبر من كل عام, لتظهر لمدة شهر بالتمام والكمال في كازينو بترو علي الكورنيش, في مقعدك الخاص الذي لا يتغير, بجانب نفس المائدة, في نفس الركن الذي يصطفيه رجل منتظم آخر هو توفيق الحكيم.. تجلسان متجاورين شامخين أشبه بتمثالي ممنون ترديدا لأمنية سيد درويش زوروني كل سنة مرة.. و..يا عشرة الماضي الجميل ياريت تعودي.. و.. ودع هواك وانساه وإنساني عمر اللي فات ماحيرجع تاني!!..{