هووهي
نـزار قـباني
أسمـع صهيل أحزانك
بقلم: سناء البيسى
لابد وأنني لست وحدي التي تفتقده في أيامنا القفر الجدباء هذه.. لابد وأن ملايين غيري يفتقدون الشعر والشاعر وكلمات كانت بمثابة المرجعية العاطفية التي لم يجد زماننا الحديث بمثلها...
لابد وأن السيل قد بلغ الزبي, والروح بلغت الحلقوم, من فيض قصائد حداثة زمن اللوغاريتمات, والتجليات, والإرهاصات العنترية التي تورث الكفر, وتخرج الواحد من هدومه, بـبقرة طلعت ع الشجرة, ومعشوقة رأسها حديد, وطاغوت سكن الليل, والمقهور قرصه الدبور, والبحر معدشي بيضحك, والقطة في بطن الشاعر, وحبيبتي من تحت الفوطة, وثريا خطبوها للمعري, والدبة وقعت في البير, والخوف القادم من خلف السور, والسمكة ركبت الأترومبيل والسحلاوي واحد خنزير.... منذ30 مارس1998 عندما غادرنا طائر العشق الذي فتح نوافذ النسيم ليرطب صهد حياتنا, ويخرج بنا من داخل الجدران الصدئة لنزهات الخلاء المورقة, ويطوف بنا مدن العشاق ومزارات المحبين وحلقات المفكرين, ويتحفنا بما أنزله عليه الوحي من حلو الكلام وزغاريد الكلام وغرور الكلام وأول الكلام وآخر الكلام وأحزان الكلام.. من وقتها وبعدما حمل نزار قباني أقبيق قلمه وغادر تاركا خلفه أجمل وأطول قصة حب عربية اشترك في صياغتها الملايين, لم يعد الشعر شعرا ولا الكلمات كلمات, ولا الإبداع يسكن كبد القصيدة.. وذاك لأن وحي الشعر قد لملم مقوماته ومفرداته ليرحل معه, وهو الذي أتاه زائرا في عام1940 فقرر الإقامة عنده كصاحب بيت يأكل عنده ويشرب عنده ويسافر معه ويقطع بجواره تذكرة العودة علي نفس الطائرة.. لكن ما أن انطفأت الجذوة وخمد البركان واستسلم صاحب القلب الذي ظل عصيا علي الهزيمة في الحب والحرب ليصبح طي سطور الكتاب الأخير في مكتبة الوجود حتي آثر الوحي أن يغيب معه في الثري..
قبل مرضه الأخير أهداني نزار آخر كتبه هل تسمعين صهيل أحزاني؟ مقدما الإهداء بـالصديقة الغالية المسكونة بالشعر والكلمات الجميلة.. مسكونة بأشعارك محتفية أنا بجمال كلماتك, وأحزانك.. أسمعها دوما وأنصت لها دوما بين دفتين من ثراء اللغة العربية تحتضنان نهرا من إبداعات النزارية كتبها بعد عام90 متوهجة متلألئة جياشة غضبي.. أرق من نسيم وأرعد من هزيم.. نفثات وتنهيدات, وزئير أسد جريح جوعان.. ملاك يبتهل وشيطان يتبدي بلا زيف أقنعة.. مهاب لا يخشي ولا يهاب.. وليد يتقوقع داخل رحم.. مرتعش مبتل تحت وابل السيل, وضرغام تلمع عضلاته في شمس البيداء.. حبيب رومانسي يهفو إلي عرش مالكة فؤاد, يتسول لمسة ونظرة والتفاتة, وعنفوان مسيطر يهبط كالسوط الدامي فوق مشاعر الأنثي ضحية عشقه.. وهكذا نزار دائما ليس علي حال.. الهادئ في دعة, والدمث إلي آخر الحد, والمتكبر المغرور الملقي بتصانيف الآخرين له إلي منازل عدم الاكتراث, ها هو الغائب الذي رحل, لكنه الموجود بما كتب..
وضعه النقاد في قوالب ورفض هو سجن القوالب.. نزار خلطة حرية, فلا هو تقليدي, ولا هو محدث, ولا هو كلاسيكي, ولا هو نيو كلاسيكي, ولا هو رومانسي, ولا هو رمزي, ولا هو ماضوي, ولا هو مستقبلي, ولا هو انطباعي أو تكعيبي أو سريالي.. نزار وكفي.
نزار يتزوج القافية في ليلة, ويلقي عليها اليمين مع الصباح التالي, وقد يتصعلك كشاعر العرب عروة بن الورد, وقد يرتدي السموكن كاللوردات الإنجليز.. قد يخطب في ساحة عكاظ, وقد يعزف الجاز, وتدفعه حريته إلي ارتكاب حماقات كثيرة, لكنه لا يعتذر ولا يندم, فعقيدته أن الشعر بلا حماقة يغدو موعظة علي مذبح كنيسة وبيانا انتخابيا لا يقرؤه أحد..
نزار في لغته لم يتفاصح, ولم يتفلسف, ولم يغش بورق اللعب, ولم يتعد علي الفاعل أو يقضي علي المفعول به, أو يغير الحال, أو يضيف للمضاف إليه, أو يزج بالمنصوب في كهف السكون أو يعتدي علي كان أو أي من أخواتها, أو يجر المجرور, أو ينكأ جراح المجزوم, أو يثير غيرة اللام الشمسية من اللام القمرية, أو يكسر زجاج اللغة, لكنه يمسحه بالماء والصابون.. ولم يحرق أوراق القاموس لكنه قام بعملية تطبيع بينه وبين الناس, ولم يقص شارب أبيه أو انتزع زر طربوشه, لكنه استأذنه أن يشتري ملابسه بنفسه.
في منهجه السياسي كان منذ البدء مع الديمقراطية الشعرية لأنه يؤمن بأن الشعر حركة توحيدية لا حركة انفصالية, وأنه همزة الوصل لا همزة القطع, وأنه فن الاختلاط بالآخرين لا فن التوحد والعزلة, وأنه فن الملامسة والحنان لا فن القبض علي الآخرين واغتصابهم شعرا.. نزار من آمن بديمقراطية الشعر ودفعه إيمانه هذا إلي التفتيش عن لغة تؤمن هي الأخري بالديمقراطية, وتحب الجلوس في المقاهي الشعبية تشرب الشيشة وتحتسي القرفة واليانسون والسحلب في الخمسينة وتلعب الشايب والكونكان والسبعة الكومي, وتركب أوتوبيسات النقل العام, وتنزل في فنادق الدرجة الثالثة, وتصرخ في المباراة وتشاهد مسرحيات عادل إمام, وتقرأ سيرة أبوزيد الهلالي والزناتي خليفة..
يأتيه الشعر في عيون الناس, يجده في أصواتهم, في عروقهم ودموعهم وضحكاتهم, ووظيفته كشاعر نقل المشهد الشعبي الكبير.. لهذا تجمع الناس حول شعره ليسمعوا حكاياتهم.. ليشاهدوا شريط الفيديو الطويل الذي أخرجه عن حياتهم, ويبحث كل منهم عن المشهد الذي سرق فيه الكاميرا محققا بطولته. ورغم تلك الشعبية النزارية.. رغم ديمقراطية أشعاره فقد عرف الشاعر قدره ليغدو توليفة من الغرور في أروع أدواره متربعا علي القمة التي لا يحفل فوقها بما يقوله الآخرون عنه: كل الملصقات التي وضعوها علي صدري, من شاعر المرأة, إلي شاعر المراهقات, إلي شاعر المجتمع المخملي, إلي شاعر الدانتيل الأزرق, إلي شاعر الغزل الحسي, إلي الشاعر الملعون.. إلي الشاعر الرجيم.. إلي شاعر الهزيمة والإحباط.. كل هذه الملصقات تساقطت كالورق اليابس علي الأرض وبقيت الأشجار واقفة.. ويتجاوز الغرور معاقل التعقل ليهتف إميراطور الغرور: الشهرة ذبحتني. كيف يمكنني أن أنام مع200 مليون عربي في غرفة واحدة.. وسرير واحد؟!!.
ويصيغ نزار في أدب الغرور: كلما قرأت في الصحافة الأدبية تعبير( النزارية) تجتاحني موجة كبرياء.. أليس رائعا أن أكون صاحب طريقة نزارية؟!.. ويتلاعب جواهرجي الكلام بالكلام فيؤرجحنا بين قمم غروره وسفوح تواضعه, لكنه أبدا لا يستطيع خداعنا بإدعاء التواضع, فحتي عندما يفصح بأنه لا يدعي باختراعه لكتابته أنه فتح القسطنطينية, أو اخترع البارود كألفريد نوبل, يعود فيقول إذا كان كارل ماركس قد اخترع الماركسية, وبيكاسو قد اخترع التكعيبية, وسلفادور دالي قد اخترع السيريالية, وجورباتشوف قد نادي بالبريسترويكا السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فإن التغيرات التي أحدثتها في لغة الشعر علي مدي خمسين عاما هي أيضا التكعيبية السيريالية البريسترويكا النزارية.. خمسين عاما من الشعر الذي نزل نزار بحره في البدء لا يعرف فن الغوص ولا أخلاق البحر بظن أنه سوف يأخذ حمام شمس لبضع ساعات ثم يعود إلي قواعده.. لكنه لم يعد إلي البر أبدا.. وبعد مضي خمسين عاما علي زواجه من حورية البحر رزق بخمسين ولدا كتابا جميعهم بصحة جيدة, ولكن أيامه مع حورية البحر لم تكن كلها عسلا, فقد كانت الأحوال بينهما أشبه بأحوال البحر.. مدا وجزرا وصحوا ومطرا وطقسا جميلا وعواصف مجنونة.. وليس صحيحا أن الشاعر هو الذي يبدأ بالغزل أو أنه الذي يستدعي القصيدة, بل القصيدة هي التي تشير إليه بإصبعها.. فيمتثل.. ورغم أن بعض الشعراء في سيرتهم الذاتية, يحاولون أن يظهروا بمظهر الدونجوانات, ويوحون بأنهم القوامون علي قصائدهم, فإن هذا الادعاء باطل, لأن الشاعر كملك السويد يملك ولا يحكم.. في حين أن القصيدة هي التي تأمر, وتنهي, وتقول للشعر: كن فيكون..... في زماننا الذي يفتقر الشعر الجميل, ويضيق بالقصيدة المبتورة الأوصال, المعدومة الفهم, الموصدة علي أذن المتابعة, أجتر نزار وأرهف السمع لصهيل أحزانه.. هل تسمعين صهيل أحزاني؟.. لقد اعتدنا الأنين مرادفا للأحزان, لكن نزار وحده هو الذي عندما يحزن يصهل كالفرس البري الرامح الجامح بحرية حزنه في مراعي الأسي العذراء.. حتي الحزن لديك يا فارسي المغوار غير مسجون أو محكوم أو قعيد, وإنما ترتع الأحزان تحت حوافر فرستك رعناء صهباء تصهل مع الريح في كل اتجاه..
يري الشاعر المقبل الصدود, المحب الكاره, الكافر الورع, المعجب المتمنع, الوله المتأفف.. يري في المرأة الكثير والكثير والكثير, ويراها ضرورية جدا لكتابة القصيدة.. ولكنه يري أنه إذا زادت الجرعة النسائية عن الحد المعقول ماتت القصيدة.. الحب عنده مملكة لا تتجزأ.. تمتد حدودها من تخوم الوطن إلي تخوم المرأة.. حب الوطن هو وطنية.. وحب المرأة هو أرقي أنواع الوطنية.. والذين لا يحبون المرأة لا يحبون الوطن ولا يحبون شعوبهم, ولا يحبون الإنسان ولا يحبون الله.... وعندما يقول يوسف إدريس عن نزار إنه دخل مملكة الشعر من باب الحريم حيث داعب مشاعرها فألهب لسانها ثناء عليه, وتداولت الثناء كل من تعشق الغزل, والغواني يغرهن الثناء.. فقد يكون بعض ما قاله إدريس هنا حقيقة فمن هي التي تستطيع الصمود أمام من يقول لها: أريد التقاط رسوم لشكل يديك.. لصوت يديك.. لصمت يديك.. فهل تجلسين أمامي قليلا لكي أرسم المستحيل.. ومن تستطيع ألا تنزع عنها غلالتها, وتهبط راضية مرضية إلي مغطس كلماته عندما يغازلها بقوله: أحبك.. أحبك كي تظل السماء بخير.. وتبقي عيون الصغار بخير.. وتبقي الشعوب.. وتبقي اللغات.. ومن هي التي تقاوم اللجوء للمظلة النزارية بينما صاحبها يؤجج مشاعرها بقوله: كيف العثور عليك؟! إني ضائع بين القطيفة, والبنفسج, والزمرد, والرخام.. إن كنت خائفة فلا تتكلمي, فأنا أشم الصوت قبل مجيئه.. وأشم رائحة الكلام..
ومن هي صاحبة القوة والعزم والشكيمة التي لا تندك قواها وتتسرب عزيمتها وتتصدع شكيمتها ونزار يقول لها:
دعيني أحبك
كي أخلص من فائض الحزن في داخلي
وكي أتحرر من زمن القبح والظلمات
دعيني أنام بجوف يديك قليلا
أيا أعذب الكائنات
فبالحب يمكنني أن أغير هندسة الكون
يمكنني أن أقاوم هذا الشتات
ومن هي الصامدة التي لا تضم بشغف بالغ الطفل الضائع في زحام حسنها:
عيناك من عسل حجازي
وخصرك بعض ما غزل الغمام.
ويداك من ذهب..
ومن عنب..
ومن خمر حليبي
ومن ريش النعام.
وأنا.. أمام تحولات الكحل في العينين,
طفل ضائع وسط الزحام..
وأنا أحبك..
غير أني قد نسيت الآن..
ترتيب الكلام
ومن هي التي لا ترد له الصاع صاعين بأمر الحب عندما يناشدها:
قولي أحبك.. كي تزيد وسامتي
فبغير حبك لا أكون جميلا..
قولي أحبك كي تصير أصابعي
ذهبا.. وتصبح جبهتي قنديلا
قولي أحبك كي يتم تحولي
فأصير قمحا, أو أصير نخيلا
الآن قوليها, ولا تترددي
بعض الهوي لا يقبل التأجيلا
قولي أحبك كي تزيد قداستي
ويصير شعري في الهوي إنجيلا
سأغير التقويم لو أحببتني
أمحو فصولا, أو أضيف فصولا
وسينتهي العصر القديم علي يدي
وأقيم مملكة النساء بديلا..
قولي أحبك كي تصير قصائدي
مائية, وكتاباتي تنزيلا
ملك أنا.. لو تصبحين حبيبتي
أغزو الشموس مراكبا وخيولا
وفي معادلته عن الحب لابد وأن تصدق أي هي علي فلسفته الوجودية:
أعشق يا حبيبتي
إذن أنا موجود
أكتب يا حبيبتي
فأسترد الزمن المفقود..
ويعلو صهيل أحزان نزار عندما يتذكر أمه.. الأم التي يراها في كل مدينة عربية.. دمشق, بيروت, القاهرة, بغداد, الخرطوم, الدار البيضاء, بنغازي, تونس, عمان, الرياض, الكويت, الجزائر, أبوظبي وأخواتها: هذه شجرة عائلتي.. كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها وأرضعتني من ثديها.. وملأت جيوبي عنبا وتينا, وبرقوقا.. كلها هزت لي نخلها.. فأكلت.. وفتحت سماواتها لي.. كراسة زرقاء.. فكتبت.. لذلك, لا أدخل مدينة عربية.. إلا وتناديني: يا ولدي.. ولا أطرق باب مدينة عربية إلا وأجد سرير طفولتي بانتظاري.. ولا تنزف مدينة عربية إلا وأنزف معها.. نسيت أن أقول لكم, إن بيت أمي كان معقلا للحركة الوطنية في الشام عام1935.. وفي باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة الوطنية السورية بالجماهير, ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسي.. وبعد كل اجتماع شعبي, كانت أمي تحصي عدد ضحايها من أصص الزرع التي تحطمت.. والشتول النادرة التي انقصفت.. وأعواد الزنبق التي انكسرت.. وعندما كانت تذهب إلي أبي شاكية له خسارتها الفادحة, كان يقول لها, رحمه الله, وهو يبتسم: سجلي أزهارك في قائمة شهداء الوطن.. وعوضك علي الله.. وتخجل أمي من سخرية أبي المبطنة, ولكنها في نفس الوقت تستشعر بهزة عنفوان, لأن بيتها صار بيت الوطنية.. ولأن أزهارها ماتت من أجل الحرية.. و.. أمي لا تتعاطي العلاقات العامة, وليس لها صورة واحدة في أرشيف الصحافة.. ولا تذهب إلي الكوكتيلات وهي تلف ابتسامتها بورقة سولوفان.. ولا تقطع كعكة عيد ميلادها تحت أضواء الكاميرات.. ولا تشتري ملابسها من لندن وباريس, ولم يسبق لها أن استقبلت مندوبة أي مجلة نسائية, وحدثتها عن حبها الأول, وموعدها الأول, ورجلها الأولي.. فأمي دقة قديمة.. ولا تفهم كيف يكون للمرأة حب أول.. وثان.. وثالث..وخامس عشر.. أمي تؤمن برب واحد.. وحبيب واحد.. وحب واحد.. قهوة أمي مشهورة.. فهي تطحنها بمطحنتها النحاسية فنجانا.. فنجانا.. وتغليها علي نار الفحم.. ونار الصبر.. وتعطرها بحب الهال.. وترش علي وجه كل فنجان قطرتين من ماء الزهر.. وزارة زراعة كانت هذه المرأة.. أمي.. ومن كثرة الأزهار, والألوان والروائح التي أحاطت بطفولتي كنت أتصور أن أمي هي موظفة في قسم العطور بالجنة.. بموت أمي يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي.. آخر قميص حنان. آخر مظلة مطر.. وفي الشتاء القادم.. ستجدونني أتجول في الشوارع عاريا..
أمي.. كلما سألوها عن شعري كانت تجيب: ملائكة الأرض والسماء.. ترضي عليه.. أمي ليست ناقدة شعر موضوعية.. ولكنها عاشقة. ولا موضوعية في العشق. وهنا تعشق الابن.. فيا أمي. يا حبيبتي. يا فائزة.. قولي للملائكة الذين كلفتهم بحراستي طوال عمري, أن لا يتركوني من بعدك لأني أخاف أن أنام وحدي..
ولأن الحب عنده كان مملكة لا تتجزأ امتدت قصيدة نزار من وجع الحب إلي وجع الوطن وتعالي صهيل أحزانه.. وهذا الوجع حديثه يطول:
يا وطني الحزين.. حولتني بلحظة.. من شاعر يكتب شعر الحب والحنين.. لشاعر يكتب بالسكين.. ويسرد الشاعر ملحمة الحزن العربي منذ أن حصلت البلاد العربية علي استقلالها في نهاية الحرب العالمية الثانية, وهي لا تعرف إلي أين تذهب.. ومع من تذهب.. ولا تعرف من تتزوج.. ومن تطلق.. ولا تعرف إذا كانت حاملا أم عاقرا.. ولا تعرف علي وجه التحديد إذا كانت ذكرا أم أنثي:
نحن ضائعو الهوية, لا ننتمي إلي أحد.. ولا إلي شيء.. ولا إلي أنفسنا.. إننا بكل أسف شعب المصادفات التاريخية..
فبالمصادفة نحب, وبالمصادفة نكره..
وبالمصادفة نتحد, وبالمصادفة ننفصل..
وبالمصادفة ندخل الحروب, وبالمصادفة نخرج منها..
وبالمصادفة نولد.. وبالمصادفة نموت..
غضبنا ليس له عمر.. ورضانا ليس له عمر
عواطفنا السياسية تتخبط كثعبان صحراوي حسب درجات الحرارة. فمرة ترتفع حرارتنا إلي الأربعين.. فنحب بعضنا حبا جنونيا.. ومرة تهبط حرارتنا إلي الصفر.. فنتحول إلي زواحف قطبية تعض بعضها عضا جنونيا.
اتهمنا الاستعمار بالكفر, فلما تحررنا منه كنا علي أنفسنا أشد كفرا.. وتغزلنا بالحرية, فلما رأيناها عارية أمامنا.. طار صوابنا فأكلناها..
حاربنا الفكر البوليسي, فلما أتيح لنا أن نحكم, كنا أشد بوليسية من كل بواليس العالم..
حلمنا بالوحدة العربية الكبري.. فلما وصلنا إلي النخلة اختلفنا علي البلح..
المدن العربية مجموعة من سيارات السباق تنطلق كلها بعكس السير, ويهشم بعضها بعضا بسادية لا نظير لها.. وخلف القضبان يستجوبون نزار, وحين يستجوبونه يقول: ما النفع من إجابتي.. إن قلت أو ما قلت فسوف تكتبون.
ويطالب نزار قباني بسماء بحجم ورقة الكتابة.. ويسألونه: ولكن ألا تكفيك مساحة كل السماوات العربية لتكتب عليها قصيدتك؟ فيجيبهم بأنها لا تكفي لأن هناك سماء من الحجر لا يكتب عليها..
وهناك سماء من القصدير لا يكتب عليها..
وهناك سماء من المسامير والخوازيق والأسلاك الشائكة لا يكتب عليها..
وهناك سماء من الحقد والملح والحموضة.. لا يكتب عليها..
وهناك سماء لا يسمح لها بأن تكتب عليها لا باللغة العربية.. ولا باللغة الصينية ولا باللغة الهندوكية.. ولا باللغة المسمارية.. ولا بأي لغة من اللغات المتداولة أو المنقرضة!!!..
وفي صهيل أحزان نزار ما يعبر عن أساه لأنه في كل يوم تنتحر مدينة عربية علي طريقتها الخاصة:
واحدة تموت بالسم..
وثانية تموت بالقهر..
وثالثة تموت بالكآبة..
ورابعة تموت بالحبوب المنومة..
وخامسة تموت من فرط الشراب والتعهر
وابتداء من غرناطة إلي يومنا هذا, ليس هناك مدينة عربية واحدة ماتت ميتة ربها..
وإنما هناك مدن وجدت مقتولة في ظروف غامضة..
ولم تتمكن النيابة من معرفة قاتلها, فسجلت الجريمة ضد مجهول..
ولا يتركنا صاحب الصهيل طويلا مكبلين بأحزانه فسرعان ما يخرجنا من دوائره بقوله المغموس بالنساء:
لا تقلقي يوما علي إذا حزنت
فإنني رجل الشتاء
إن كنت مكسورا ومكتئبا
ومطويا علي نفسي
فإن الحزن يخترع النساء
نزار.. نقتقدك موقفا شامخا بالأمس واليوم وغدا:
لم أتناول العشاء أبدا
علي مائدة أي سلطان
أو جنرال
أو أمير
أو وزير
إن حاستي السادسة كانت تنبئني دائما
أن العشاء مع هؤلاء
سوف يكون العشاء الأخير..
نزار.. نفتقدك عرافا قارئا للفنجان العربي متنبئا بأن الغضب العربي آت لا ريب فيه:
إنني أري بعيني أشجار نخل تتحرك من بعيد
وعيونا عربية تلتمع وراء الأفق
وشموسا عربية تنبثق من العتمة
وأجيالا عربية جديدة تزرع الأرض قمحا ووردا
نزار ابن دمشق الذي رحل إثر أزمة قلبية بعدما صاغ قوله بصهيل أحزانه:
قلبي كمنفضة الرماد.. أنا
إن تنبشي ما فيه.. تحترقي
شعري أنا قلبي.. ويظلمني
من لا يري قلبي علي الورق
يكتب وصيته علي فراش المرض: قبري في دمشق لأنها الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين.. وهكذا يعود الطائر إلي بيته والطفل إلي صدر أمه.... ويبقي لنا زاد أيامنا صهيل أحزانه وشهد أبياته..